فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)}.
تجيء قصة لوط هنا. ومكانها التاريخي كان مع قصة إبراهيم. ولكن السياق التاريخي ليس ملحوظًا في هذه السورة كما أسلفنا إنما الملحوظ وحدة الرسالة والمنهج، وعاقبة التكذيب: من نجاة للمؤمنين وهلاك للمكذبين.
ويبدأ لوط مع قومه بما بدأ به نوح وهود وصالح. يستنكر استهتارهم؛ ويستجيش في قلوبهم وجدان التقوى، ويدعوهم إلى الإيمان والطاعة، ويطمئنهم إلى أنه لن يفجعهم في شيء من أموالهم مقابل الهدى. ثم يواجههم باستنكار خطيئتهم الشاذة التي عرفوا بها في التاريخ:
{أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون}.
والخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط وقد كانوا يسكنون عدة قرى في وادي الأردن هي الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور، وترك النساء. وهو انحراف في الفطرة شنيع. فقد برأ الله الذكر والأنثى؛ وفطر كلًا منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل، الذي يتم باجتماع الذكر والأنثى. فكان هذا الميل طرفًا من الناموس الكوني العام، الذي يجعل كل من في الكون وكل ما في الكون في حالة تناسق وتعاون على إنفاذ المشيئة المدبرة لهذا الوجود. فأما إتيان الذكور الذكور فلا يرمي إلى هدف، ولا يحقق غاية، ولا يتمشى مع فطرة هذا الكون وقانونه. وعجيب أن يجد فيه أحد لذة. واللذة التي يجدها الذكر والأنثى في التقائهما إن هي إلا وسيلة الفطرة لتحقيق المشيئة. فالانحراف عن ناموس الكون واضح في فعل قوم لوط. ومن ثم لم يكن بد أن يرجعوا عن هذا الانحراف أو أن يهلكوا، لخروجهم من ركب الحياة، ومن موكب الفطرة، ولتعريهم من حكمة وجودهم، وهي امتداد الحياة بهم عن طريق التزاوج والتوالد.
فلما دعاهم لوط إلى ترك هذا الشذوذ، واستنكر ما هم فيه من ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، والعدوان على الفطرة وتجاوز الحكمة المكنونة فيها، تبين أنهم غير مستعدين للعودة إلى ركب الحياة، وإلى سنة الفطرة:
{قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين}.
وقد كان فيهم غريبًا. وفد عليهم مع عمه إبراهيم حين اعتزل أباه وقومه، وترك وطنه وأرضه، وعبر الأردن مع إبراهيم والقلة التي آمنت معه. ثم عاش وحده مع هؤلاء القوم حتى أرسله الله إليهم، ليردهم عما هم فيه، فإذا بهم يهددونه بالإخراج من بينهم، إذا لم ينته عن دعوتهم إلى سواء الفطرة القويم!
عندئذ لم يبق إلا أن يعالنهم بكراهة ما هم عليه من شذوذ، في تقزز واستبشاع:
{قال إني لعملكم من القالين}.
والقلى: الكره البالغ. يقذف به لوط في وجوههم في اشمئزاز. ثم يتوجه إلى ربه بالدعاء أن ينجيه من هذا البلاء هو وأهله:
{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}.
وهو لا يعمل عملهم ولكنه يحس بفطرته الصادقة أنه عمل مرد مهلك. وهو فيهم. فهو يتوجه إلى ربه أن ينجيه وأهله مما سيأخذ به قومه من التدمير.
واستجاب اللّه دعوة نبيه:
{فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ}.
هذه العجوز هي امرأته- كما يذكر في سور أخرى- وقد كانت عجوز سوء تقر القوم على فعلتهم المنكرة، وتعينهم عليها! {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}.
قيل خسفت قراهم وغطاها الماء. ومنها قرية سدوم. ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميت في الأردن.
وبعض علماء طبقات الأرض يؤكدون أن البحر الميت يغمر مدنا كانت آهلة بالسكان. وقد كشف بعض رجال الآثار بقايا حصن بجوار البحر، وبجواره المذبح الذي تقدم عليه القرابين.
وعلى أية حال فقد قص القرآن نبأ قرى لوط- على هذا النحو- وقوله الفصل في الموضوع.
ثم يعقب على مصرعهم بالتعقيب المكرور:
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)}.
القول في موقعها كالقول في سابقتها، والقول في تفسيرها كالقول في نظيرتها.
وجُعل لوط أخًا لقومه ولم يكن من نسبهم وإنما كان نزيلًا فيهم، إذ كان قوم لوط من أهل فلسْطين من الكنعانيين، وكان لوط عبرانيًا وهو ابن أخي إبراهيم ولكنه لما استوطن بلادهم وعاشر فيهم وحالفهم وظاهرهم جعل أخًا لهم كقول سحيم عبد بني الحسحاس:
أخوكم ومولى خيركم وحليفكم ** ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا

يعني نفسه يخاطب مَواليه بني الحسحاس.
وقال تعالى في الآية الأخرى {وإخوانُ لوط} [ق: 13].
وهذا من إطلاق الأُخوّة على ملازمة الشيء وممارسته كما قال:
أخور الحرب لباسًا إليها جِلاَلها ** إذا عَدِموا زادًا فإنك عاقر

وقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوانَ الشياطين} [الإسراء: 27].
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)}.
هو في الاستئناف كقوله: {أتتركون} [الشعراء: 146] في قصة ثمود.
والإتيان: كناية.
والذكران: جمع ذَكر وهو ضد الأنثى.
وقوله: {من العالمين} الأظهر فيه أنه في موضع الحال من الواو في {أتأتون}.
و{مِن} فَصْلية، أي تفيد معنى الفصل بين متخالفَين بحيث لا يماثل أحدهما الآخر.
فالمعنى: مفصولين من العَالمين لا يماثلكم في ذلك صنف من العالمين.
وهذا المعنى جوزه في الكشاف ثانيًا وهو أوفق بمعنى: {العالمين} الذي المختار فيه أنه جمع عالَم بمعنى النوع من المخلوقات كما تقدم في سورة الفاتحة.
وإثبات معنى الفصل لحرف {مِن} قاله ابن مالك، ومثَّل بقوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة: 220]، وقوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيثَ من الطيب} [الأنفال: 37].
ونظر فيه ابن هشام في مغني اللبيب وهو معنى رشيق متوسط بين معنى الابتداء ومعنى البدلية وليس أحدهما.
وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى {والله يعلم المفسد من المصلح} في سورة البقرة (220).
والمعنى: أتأتون الذكران مخالفين جميع العالمين من الأنواع التي فيها ذكور وإناث فإنها لا يوجد فيها ما يأتي الذكور.
فهذا تنبيه على أن هذا الفعل الفظيع مخالف للفطرة لا يقع من الحيوان العُجْم فهو عمل ابتدعوه ما فعله غيرهم، ونحوه قوله تعالى في الآية الأخرى {إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} [العنكبوت: 28].
والمراد بالأزواج: الإناث من نوع، وإطلاق اسم الأزواج عليهن مجاز مرسل بعلاقة الأول، ففي هذا المجاز تعريض بأنه يرجو ارعِوَاءهم.
وفي قوله: {ما خلق لكم ربكم} إيماء إلى الاستدلال بالصلاحية الفطرية لعمَلٍ على بطلان عمل يضاده، لأنه مناف للفطرة.
فهو من تغيير الشيطان وإفساده لسنة الخلق والتكوين، قال تعالى حكاية عنه {ولآمُرنَّهم فَليُغَيِّرُن خَلْق الله} [النساء: 119].
و{بل} لإضراب الانتقال من مقام الموعظة والاستدلال إلى مقام الذم تغليظًا للإنكار بعد لينه لأن شرف الرسالة يقتضي الإعلان بتغيير المنكر والأخذ بأصرح مراتب الإعلان فإنه إن استطاع بلسانه غليظ الإنكار لا ينزل منه إلى لَيِّنه وأنه يبتدىء باللين فإن لم ينفع انتقل منه إلى ما هو أشد ولذلك انتقل لوط من قوله: {أتأتون الذكران} إلى قوله: {بل أنتم قوم عادون}.
وفي الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: {أنتم قوم عادون} دون أن يقول: بل كنتم عادين، مبالغة في تحقيق نسبة العدوان إليهم.
وفي جعل الخبر {قوم عادون} دون اقتصار على {عَادون} تنبيه على أن العدوان سجية فيهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164).
والعادي: هو الذي تجاوز حدّ الحق إلى الباطل، يقال: عدا عليه، أي ظلمه، وعدوانهم خروجهم عن الحد الموضوع بوضع الفطرة إلى ما هو مناف لها محفوف بمفاسد التغيير للطبع.
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)}.
قولهم كقول قوم نوح لنوح إلا أن هؤلاء قالوا: {لتكونَنّ من المخرَجين} فهدّدوه بالإخراج من مدينتهم لأنه كان من غير أهل المدينة بل كان مهاجرًا بينهم وله صهر فيهم.
وصيغة {من المخرجين} أبلغ من: لنُخرجنك، كما تقدم في قوله: {لتكونن من المرجومين} [الشعراء: 116].
وكان جواب لوط على وعيدهم جواب مستخفّ بوعيدهم إذ أعاد الإنكار قال: {إني لعملكم من القالين} أي من المبغضين.
وقوله: {من القالين} أبلغ في الوصف من أن يقول: إني لِعَمَلكم قالٍ، كما تقدم في قوله تعالى: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة البقرة (67).
وذلك أكمل في الجناس لأنه يكون جناسًا تامًّا فقد حصل بين {قال} وبين {القالين} جناس مذيَّل ويسمَّى مطرَّفًا.
وأقبل على الدعاء إلى الله أن ينجيه وأهله مما يعمَل قومُه، أي من عذاب ما يعملونه فلابد من تقدير مضاف كما دل عليه قوله: {فنجيناه}.
ولا يحسن جعل المعنى: نجّني من أن أعمل عملهم، لأنه يفوت معه التعريض بعذاب سيحل بهم.
والقصة تقدمت في الأعراف وفي هود والحِجْر.
والفاء في قوله: {فنجيناه} للتعقيب، أي كانت نجاته عقب دعائه حسبما يقتضي ذلك من أسرع مدةٍ بين الدعاء وأمرِ الله إياه بالخروج بأهله إلى قرية صوغر.
والعجوز: المرأة المسنة وهي زوج لوط، وقوله: {في الغابرين} صفة {عجوزًا}.
والغابر: المتصف بالغبور وهو البقاء بعد ذهاب الأصحاب أو أهل الخيل، أي باقية في العذاب بعد نجاة زوجها وأهله وهي مستثناة من {وأهله أجمعين}.
وذلك أنها لحقها العذاب من دون أهلها فكان صفة لها.
وقد تقدم ذلك في قصتهم في سورة هود.
و{ثم} للتراخي الرتبي لأن إهلاك المكذبين أجدَر بأن يذكر في مقام الموعظة من ذكر إنجاء لوط المؤمنين.
والتدمير: الإصابة بالدمار وهو الهلاك، وذلك أنهم استؤصلوا بالخسف وإمطار الحجارة عليهم.
والمطر: الماء الذي يسقط من السحاب على الأرض.
والإمطار: إنزال المطر، يقال: أمطرت السماء.
وسمي ما أصابهم من الحجارة مطرًا لأن نزل عليهم من الجو.
وقيل هو من مقذوفات براكين في بلادهم أثارتها زلازل الخسف فهو تشبيه بليغ.
وسَاء فعل ذمَ بمعنى بئس.
وفي قوله: {المنذرين} تسجيل عليهم بأنهم أُنذروا فلم ينتذروا.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)} أي في قصتهم المعلومة للمشركين آية، قال تعالى: {وإنكم لَتَمُرُّون عليهم مُصْبِحين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138] وتقدم القول في نظيره آنفًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)}.